الاثنين، نوفمبر 13، 2006

عندما سقطت وطنيه



عندما سقطت وطنيه

نظرت من الشرفة المطلة على الحارة الشعبية الضيقة . ثبت نظرى على المنزل القديم المتهدم أمامى أنتابتنى أحاسيس كثيرة متضاربة تحمل معها حنين الذكريات .
أربعة سنين من الاغتراب خارج الوطن من أجل جمع المال والعودة ومحاولة تصحيح الخطأ . أربعة سنين من الحنين إلى الأهل والحارة الشعبية والمنزل القديم . أربعة سنين من الأغتراب حطمت داخلى الكثير من المشاعر ولكنها دائما ابقت على اشتياقى إلى الوطن وإلى وطنية .
****
أين ذهبت وطنية ؟
تردد السؤال فى رأسى كثيرا وأنا أتأمل منزلها القديم المتهدم أمامى . ذلك المنزل الذى أحتضن سنين طفولتى الجميلة مع ضحكات وطنية الصافية ووالدها الشيخ مجاهد إمام الجامع الصغير على مدخل الحارة وشقيقاتها الثلاثة . ذلك المنزل الذى يخلو من كل مقومات الحياة ماعد الحب الذى يجمع رجال الحارة واطفالها فى ايام الشتاء الباردة حول الشيخ مجاهد ليستمعوا إلى احاديثه التى تحمل كل يوم طعم مختلف . يوم تحمل سيرة الرسول ويوم حكايات السيرة الشعبية و يوم تحمل ذكرياته عن أيام دراسته بالأزهر ووطنيته وكيف أنه دفع ثمن وطنيته وأصراره على الدفاع عنها بأن تم فصله من الأزهر بعد أن تم إعتقاله . ولكن لا أحد يستطيع ان ينسى وجه الشيخ مجاهد كلما بدأ حديثه عن ذكرياته فى الشباب والتى تجعل الدماء تندفع إلى وجهه ليبدوا شابا رغم سنين عمره التى تجاوزت السبعين فيملأه الزهو والفخر بوطنيته كلما تفاعل الجمع معه وزاد انصاته فيرتفع صوته أكتر واكثر ليملاء جوانب الحارة الضيقة
****
(لا قيمة للوطن من دون وطنيه ) هكذا كان يقول الشيخ مجاهد لنا كلما سألناه عن معنى اسم وطنية ( اسميتها وطنيه حتى لا تضيع مع الحياة ) .لكن ضاعت وطنية كما ضاعت سنين الاغتراب وسقط المنزل الذى كان يحتوى الجميع . ضاعت وطنية الفتاة الصغيرة التى كانت تنطلق فى الحارة حافية القدمين وتقتحم جميع البيوت المعدمة دون أن يستطيع أحد أيقافها لتخرج منها بقبلة على وجنتها والقليل من الخبز أو البسكويت أو المحشى لنتقاسمه جميعا معا فى فرحة الاطفال . ضاعت وطنيه بجرأتها التى كانت تستطيع معها أن تقترب من مظلوم مجزوب الحارة بجسده الضخم فى أشد ثوراته عندما يبدأ فى الصياح والسب موجهه لجميع أهل الحارة دون أن يستطيع أحد من أهل الحارة كبيرها وصغيرها الأقتراب منه إلى أن تأتى وطنية لتقترب منه فى جراءة وتمد له يدها بقطعة من الخبز فيأخذها منها ويبتسم أبتسامة لا نراها مرة أخرى أبدا وتهدأ ثورته
****
لا أعلم لماذا اصبحت أشعر أن الحارة شديدة الضيق كلما سألت أهلها عن وطنية فلا التقى سوى بالصمت ووجوه غريبة لا أعرفها لا تشترك سوى فى همهمات ضعيفة تصل إلى سمعى تحمل معها اسم وطنية وحكايات لا استطيع تصديقها عنها . وطنية تلك الشابة الخجولة التى كان لا يستطيع أحد الاقتراب منها إلا وفتك به مظلوم مجذوب الحارة الذى يلازمها كظلها وينتظرها أمام باب المنزل القديم حتى تحضر له طعامه أو
تصنع له معطف يحميه من برد الشتاء فلا يخلعه صيفا أو شتاء تتحول إلا عاهرة ولا يعرف أحد لها عنوان .
أين أنتى يا وطنية ؟
لتردى على كل هذه الشائعات . وطنية تلك الشابة التى بللت صدرى بدمعها يوم وفاة الشيخ مجاهد فى الجامع أثناء تحفيظ القرآن لأطفال الحارة . فيحمل وجهها كل رعب العالم عندما تتذكر شققتها الثلاثة الاصغر منها . تلك الشابة التى أرتعد جسدها بين يدى وانطلقت تجرى بعيدا عنى حتى سقطت لمجرد أنى وضعت على جبهتها قبلة محاولا تهدئتها بعد نهاية عزاء الشيخ مجاهد تتحول إلى عاهرة ولا يعرف أحد لها عنوان مستحيل .
****
عندما سقطت وطنية لا أعلم ما الذى حدث سوى أننى اندفعت أليها محاولا الاطمئنان عليها وتهدئتها . حاولت رفعها عن الارض فسقطنا معا .
****
على المقهى اخذتنى الذكريات وأنا أتذكرها وهى تقف على مدخل الحارة تبيع خضراتها الطازجة تحاول تأمين الحياة لها ولشقيقاتها وبجوارها مظلوم يقتك بكل من يحاول مشاكستها .... تترجانى ألا أرحل .... فلا أرى أمامى ألا وجهها يزداد شحوبا ... فأعدها أنى سأعود لبناء المستقبل وتصحيح الخطأ .
لا يقطع أفكارى سوى ظهور مظلوم وقد أنتابته ثورته يوجه سبابه للجميع أتقدم منه
وانا يملأنى الرعب أحمل فى يدى مبلغ من المال فتزداد ثورته ويتوجه بسبابه لى ... أجد قطعة خبز أمسكها واقدمها له مع المال فيأخذ الخبز ويلقى المال ترتسم على وجهه ابتاسمة وتهدأ ثورته .
* وطنية يا مظلوم تفتكرها ؟
** أيوة ..
* هى فين ؟
** عند السمك ...
* فين !!؟؟
** عند السمك ..السمك فين فى البحر ....فوق فوق ..عند السمك
* تعرف توصلنى
** تعال
****
أفتح باب السيارة لمظلوم يتردد كثيرا وهو ينظر إلى سيارتى الفارهة ومعطفه الممزق ادعوه للدخول فيحشر جسده الضخم اسفل المقعد الأمامى بجوارى . اقنعه بالصعود إلى المقعد نطوف فى الطرقات بناء على أشارات من يده وكلمات متقطعه من فمه أملا فى الوصول إلى وطنية يشير لى بالتوقف أما مبنى ضخم مطل على النيل يفتح باب السيارة و يندفع بسرعة إلى داخل المبنى متجاوزا فردا الأمن يحرسون المبنى . تنتابنى الدهشة . أحاول الأندفاع خلفه يوقفنى رجال الأمن فلا اجد على فمى اجابة سوى وطنية يخبرنى رجل الأمن أننى أستطيع أن أراها فى المساء فى مكان عملها ويعطينى أسم فندق خمسة نجوم
****
فى المساء أرتدى بدلة سهرة مستوردة أتجه إلى الفندق أسأل عن مكان عملها يشير الجميع إلى النادى الليلى . أتجه إلى لنادى الليلى وأنا لا استطيع أن أخفى دهشتى أبحث بين كل الوجوه عن وجهها فلا أجد . .. يعلن المسرح أن الرقصة القادمة مقدمة كعذاء واجب للضيف الكبير فى وفاة شقيقه الممسؤول الكبير ويشير بيده إلى مائدة قريبة يجلس عليها مجموعة من الرجال تدل وجوهم على الهيبة والاحترام وحولهم مجموعة من الفتايات ... تظهر راقصة بملابس سوداء ترقص على أنغام نشيد وطنى شهير ...
تأتى فتاه وتجلس بجوارى.. أتأمل وجه الراقصة ينتابنى الرعب .. أتأمله أكثر فأكثر.. تهمس الفتاة بكلمة داخل أذنى .. لا أسمعها وأظل أتأمل وجه الراقصة أمامى أكثر فأكثر ... تسألنى الفتاة سؤال ..فلا أجد إجابة سوى وطنية .... وطنية ترقص أمامى على المسرح بوجهها الذى يملأه الشحوب ..يتقدم أحد الجالسين منها يحاول تقبيلها ... تحاول دفعه فتسقط ينطلق مظلوم من خلف المسرح يحاول حماية وطنية يندفع الجميع إليه يوسعونه ضربا ...يسقط ... تحاول وطنية حمايته فتلقى بنفسها فوقه تتلقى عنه الركلات ... أجلس فى مكانى كالصنم تسألنى الفتاة بجوارى هل توافق ... فلا أجد إجابة سوى وطنية ... تسحبنى من بدلة السهرة المستوردة ... أسير معها فى استسلام ...
أترك المعركة مشتعلة ... أحد الحضور يرفع كأسه فى الهواء ويردد فى حماس
(رائعة يا وطنيه لقد جعلت الجميع وطنيين ) ... لا اشعر سوى بدمعة ساخنة تسقط من عينى وكلمات الشيخ مجاهد ( لا قيمة للوطن من دون وطنية , اسميتها وطنيه حتى لا تضيع مع الحياة )

tamer_silit
10/8/2004
9:07 am

ليست هناك تعليقات: